نه كان ببغداد قبل قرابة الأربعين سنة.. رجل يعمل جزاراً يبيع اللحم.. وكان يذهب قبل الفجر إلى دكانه.. فيذبح الغنم.. ثم يرجع إلى بيته.. وبعد طلوع الشمس يفتح المحل ليبيع اللحم..
وفي أحد الليالي بعدما ذبح الغنم.. رجع في ظلمة الليل إلى بيته.. وثيابه ملطخة بالدم.. وفي أثناء الطريق سمع صيحة في أحد الأزقة المظلمة.. فتوجه إليها بسرعة.. وفجأة سقط على جثة رجل قد طعن عدة طعنات.. ودماؤه تسيل.. والسكين مغروسة في جسده..
فانتزع السكين.. وأخذ يحاول حمل الرجل ومساعدته.. والدماء تنزف على ثيابه..
لكن الرجل مات بين يديه..
فاجتمع الناس.. فلما رأوا السكين في يده.. والدماء على ثيابه.. والرجل فزع خائف..
اتهموه بقتل الرجل.. ثم حكم عليه بالقتل..
فلما أحضِر إلى ساحة القصاص.. وأيقن بالموت..
صاح بالناس.. وقال :
أيها الناس أنا والله ما قتلت هذا الرجل.. لكني قتلت نفساً أخرى.. منذ عشرين سنة.. والآن يقام عليَّ القصاص..
ثم قال :
قبل عشرين سنة كنت شاباً فتياً.. أعمل على قارب أنقل الناس بين ضفتي النهر..
وفي أحد الأيام جاءتني فتاة غنية مع أمها.. ونقلتهما..
ثم جاءتا في اليوم التالي.. وركبتا في قاربي..
ومع الأيام.. بدأ قلبي يتعلق بتلك الفتاة.. وهي كذلك تعلقت بي..
خطبتها من أبيها لكنه أبى أن يزوجني لفقري..
ثم انقطعت عني بعدها.. فلم أعد أراها ولا أمها..
وبقي قلبي معلقاً بتلك الفتاة.. وبعد سنتين أو ثلاث..
كنت في قاربي.. أنتظر الركاب.. فجاءتني امرأة مع طفلها..
وطلبت نقلها إلى الضفة الأخرى.. فلما ركبت.. وتوسطنا النهر..
نظرت إليها.. فإذا هي صاحبتي الأولى.. التي فرق أبوها بيننا..
ففرحت بلقياها.. وبدأت أذكرها بسابق عهدنا.. والحب والغرام..
لكنها تكلمت بأدب.. وأخبرتني أنها قد تزوجت وهذا ولدها..
فزين لي الشيطان الوقوع بها.. فاقتربت منها.. فصاحت بي.. وذكرتني بالله..
لكني لم ألتفت إليها.. فبدأت المسكينة تدافعني بما تستطيع.. وطفلها يصرخ بين يديها..
فلما رأيت ذلك أخذت الطفل.. وقربته من الماء وقلت إن لم تمكنيني من نفسك.. غرقته.. فبكت وتوسلت.. لكني لم التفت إليها..
وأخذت أغمس رأس الطفل فإذا أشفى على الهلاك أخرجته.. وهي تنظر إليّ وتبكي.. وتتوسل.. لكنها لا تستجيب لي.. فغمست رأس الطفل في الماء.. وشددت عليه الخناق.. وهي تنظر.. وتغطي عينيها.. والطفل تضطرب يداه ورجلاه.. حتى خارت قواه.. وسكنت حركته.. فأخرجته فإذا هو ميت.. فألقيت جثته في الماء..
ثم أقبلت عليها.. فدفعتني بكل قوتها.. وتقطعت من شدة البكاء..
فسحبتها بشعرها.. وقربتها من الماء.. وجعلت أغمس رأسها في الماء.. وأخرجه.. وهي تأبى عليَّ الفاحشة..
فلما تعبت يداي.. غمست رأسها في الماء.. فأخذت تنتفض حتى سكنت حركتها..
وماتت.. فألقيتها في الماء.. ثم رجعت..
ولم يكتشف أحد جريمتي.. وسبحان من يمهل ولا يهمل..
فبكى الناس لما سمعوا قصته.. ثم قطع رأسه.. { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون }..
فتأملوا في حال هذه الفتاة العفيفة.. التي يقتل ولدها بين يديها.. وتموت هي.. ولا ترضى بهتك عرضها..
فأين هذه العفة.. من فتيات اليوم.. تبيع إحداهن عرضها بمكالمة هاتفية.. أو هدية شيطانية.. وتنساق وراء كلام معسول من فاسق.. أو تنجرّ وراء شبهة من منافق..
ثم الرغبة في دار الأخرى.. فيها متع عظيمة..
التفكر في الحور الحسان في دار القرار.. فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرم الله عليه منعه من الاستمتاع هناك
كان للسلف في الحرص على غض البصر شأن عجيب..
خرج حسان بن أبي سنان يوم عيد..
وكان محمد بن واسع يأتي إلى صديق له فإذا طرق الباب.. صاحبك الأعمى..
نعم.. هؤلاء كان لهم أبصار.. وعندهم غرائز.. ونفوسهم تشتهي الملذات..
لكنهم.. يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار..
ومن تساهل بالنظرة الأولى.. ولم يسارع إلى علاج نفسه..
وقع في الداهية العظمى وهي تعلق القلب.. فإذا تمكن المحبوب من القلب بدأ المحب يستحسن كل ما يقع منه.. وتعجبه حركاته.. وتثيره ضحكاته..
ويفتن بابتسامته.. ويأنس بمجالسته..
بل.. ويُعجب منه بكل شيء وإن كان قبيحاً..
كما ذكروا أن رجلاً كان يحب امرأة سوداء.. فلما تمكن حبها من قلبه.. صار كل سواد يذكره بها.. فأحب كل شيء أسود.. وكان يتغزّل بها ويقول :
أُحِبُّ الكلاب السودَ من أجل حُبها *** ومن أَجْلِها أحببتُ ما كان أسوداً
ومن تساهل بالنظر أوقعه ذلك في أحد الخطرين.. إما عشق النساء.. أو عشق الغلمان.. فيصرفه ذلك عن طاعة الرحمن.. إلى وسوسة الشيطان..
كما كتب إليَّ أحدهم يشرح فيها قصة وقوعه في العشق.. وضمنها أبياتاً نظمها بلهجته العامية.. ولا بأس أن أسوق لكم شيئاً منها.. يقول :
بسم الله الرحمن بابدا كلامي واكتب على بيض الورق كل ما اخفيت
بعد اذنكم باشرح حكاية غرامي والعذر منكم كان بالهرج زليت
يا شيخ أنا والله ما ادري علامي حبيت مدري ليه يا شيخ حبيت
لو ادري ان الحب هم وهيامي ما كان لا حبيت ولا تعنيت
علقني بحبه وزاد اهتمامي ودارت بي الدنيا وقفا وقفيت
واليوم عقب الهجر عفت المنامي مغير افكر فيه لاصبحت وامسيت
وان جيت ابنسى قلت هذا حرامي لا يمكن انسى صحبته لو تناسيت
يا اهل الهوى ما في المحبة ملامي اما شقا ولا دموع وتناهيت
نعم.. هي شقاء.. ودموع.. وتناهيت..
ولا يزال الشيطان بهذا العاشق حتى يقع في الفاحشة عياذاً بالله..
وقد عظم الله هذه الفاحشة وقرنها بالشرك والقتل فقال : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } ..
ثم ذكر الله تعالى عذاب من فعل ذلك يوم القيامة فقال : { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } ..
ثم دعاهم الكريم الرحيم إلى رحمته فقال : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متاباً }..
ونفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني فقال كما في الصحيحين : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) .
وسبيل الزنا هو شر السبل.. لذا قال عز وجل :
{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }..
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في المنام آتيان فابتعثاه معهما.. فاطلع على أنواع من عذاب العصاة..
قال صلى الله عليه وسلم : فانطلقنا فأتينا على مثل التنور ( والتنور هو نقبٌ مثلُ الحفرة يشعل فيه الخباز النار ويطرح الخبز على جدرانها حتى ينضج )
قال : فأتينا على مثل التنور.. فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة.. وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم.. فإذا أتاهم ذلك اللهب.. ضوضوا ( أي صاحوا ).. فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم فزع من حالهم.. وسأل جبريل عنهم..
فقال جبريل : هؤلاء هم.. الزناة والزواني..
وفي رواية ابن خزيمة بإسناد صحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( ثم انطلق بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً.. وأنتنُه ريحاً.. كأن ريحهم المراحيض.. قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الزانون والزواني ) .
وذكر الههيتمي أنه مكتوب في الزبور : إن الزناة يعلقون بفروجهم في النار.. ويضربون عليها بسياط من حديد.. فإذا استغاث أحدهم من الضرب.. نادته الملائكة :
أين كان هذا الصوت وأنت تضحك.. وتفرح.. وتمرح.. ولا تراقب الله ولا تستحي منه..!!
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال : ( يا أمة محمد.. والله إنه لا أحد أغير من الله.. أن يزنى عبده.. أو تزني أمته.. يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) .
نعم.. كم من لذة ساعة.. أورثت حزناً عظيماً.. وعذاباً أليماً..
وليس ربهم والله بغافل عنهم.. { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }..
فليس بعد مفسدة الشرك والقتل أعظم من مفسدة الزنا..
ولو بلغ الرجلَ أن ابنته قتلت.. كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت..
فأفٍّ للزنا.. ما أقبح أثرَه.. وأسوء خبرَه..
وكم من شهوة ذهبت لذتها.. وبقيت حسرتها..
وأول من يشهد على الزناة والزواني.. أعضاؤهم التي متعوها بهذا الزنا..
رجله التي مشى بها.. ويده التي لمس بها.. ولسانه الذي تكلم به..
بل تشهد عليه.. كل ذرة من جلده.. وكل شعرة من شعراته..
قال الله { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين }..
نعوذ بالله من هذا الحال..
وفي الدنيا..
أمر الله بتغليظ العقوبة على الزاني والزانية..وإن كانا شابين عزبين..
ونهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة.. وأمر أن يكون الحد بمشهد من الناس..
قال عز وجل { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }..
هذا غير عقوبات الدنيا التي تتتابع على الزاني..
كالفقر الذي ينزله الله به ولو بعد حين..
والبلاء والكرب المبين..
ضيقُ الصدر.. وتعسّرُ الأمر..
هذا غير.. دعاء الصالحين عليه..
فكم من يدٍ في ظلمة الليل بسطت.. تدعوا عليه وعليها..
وكم من جبهة بين يدي الله سجدت..تستنزل العذاب عليه وعليها..
وكم من عين دمعت.. ودعوة رفعت.. تستعدي رب العالمين.. على المفسدين..
فكيف يتلذذ عاقل بمتعة هذه عاقبتها.. وشهوة هذه نهايتها..
تلكم – أيها الشباب والفتيات - عاقبة الزنا في الدنيا..
وأول طريق الزنا خطوة.. ونظرة.. وضحكة.. وتبرج وسفور..